الجدار .
إن الذي ضاقت عليه الدنيا و الأرض بما رحبت و ظن ألا ملجأ من الله إلا إليه ، خرج من بيته يجوب الأرض بالواد ، أرضا تنكرت له ، يرى الناس كأنهم أشباح بل هم الاشباح ، يهيم على وجهه ، فجسده و روحه ، ذهنه و عقله ، خياله و خياله المقابل كلهم قد تشرّدوا في البلاد ، احتضنته الغيوم و غلفه الضباب ، مثخن الجراح من حرب بسوس ، فليس هنالك من شيء مرئي أو محسوس ... يبحث عن شيء واحد ، يبحث عن جدار . لماذا ؟
الجدار هو اول مسطح خطت فوقه يد الانسان مخاوفها و هواجسها ، استقبل في صمت طويل تعاويذه السحرية ثم رسومه الطقسية و الشعائرية ، رحلة البرّ الغربي ، نزهات افروديت البحرية ، صور السيد المسيح متخفية عن أعين الرومان ، محاريب و قبور و أنهر و سديم ، وصولا للجدار كمسطح ضد عزل النفس في قاعات الجحيم !
لماذا الجدار ؟...إن له ذكرى عميقة في النفس الانسانية تجعل الحواس تنجذب لحبل سريّ خفي يربطنا بالاماكن التي مررنا بها و تعلقنا بجدرانها فأصبحت حاضنة لأحلامنا و عثراتنا و مخاوفنا ، وكأننا - بلا شك - نترك فيها جزءا من أنفسنا لا نسترده إلا بالنزوح إليها مرة أخرى ، و ربما هذا الذي يشعرنا بألم الاغتراب فوجداننا لا يتكامل إلا بالمكان الذي احتضن ايامنا ، و بالجدار كرحم لهذا المكان .
هنالك بعيد جدار يناديني تعالى اجلس إليّ ، انا خلاص ألمك انا نهاية عجزك ، انا غاية هيامك ، تعالى واجلس إليّ و قبل ان تجلس حكّني بأناملك لتثير نقعي و تشم رائحتي أنا رائحة أبديتك..
لتتذكرني من أنا ؟...أنا الخط الواهي بين الحلم و الواقع ، عندما تسند ظهرك إليّ بعد أن أنهكك المسير جدا تتحرر من ربقة الارتباط بالواقع بالحسابات بما كان او سيكون او ما هو كائن ...يصفو الذهن ، و تصير جبال همومك كالعهن ، و يذهب الفارق الوهميّ بين الواقع و الخيال حينها و حينها فقط يبدو لك وجه امرأتك ، انموذجك الأثير سمّها كما تشاء سمّها سارة أو سمّها هالة ، سمّها ليلى أو سمّها سلمى ...عندي فقط ترى وجهها ...عندي فقط ترى وجه من فقدتّ يومًا.
و عندما تسند ظهرك للجدار تنشأ علاقات غير متوقعة بين المفردات ، تلمع رقائق شذرات من ذكريات ... صورة ذهنك كالفسيفساء جامع الاحلام عدة ، أو ارهاصات بصور قادمة ، او ذكريات بصرية نائية ، و الاشكال هائمة متداخلة ، تحاكي حالة انسكاب الصور و تداخلها في الذاكرة ، فتبدو كأطياف متحررة من الثقل الأرضيّ ...وهذا ما أراده ذاك اللوذعيّ ، حينما هام على وجهه الأبيّ .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق